ترك دَاوُدُ مكان الاستناد على الله وذهب إلى أعداء الله وإسرائيل. والمؤمن الذي يهجر طريق الطاعة لله لا بد أن عقله يتغيَّـر وتختفي ملامح شخصيته الحقيقية، وتُستبدل بمسالك أخرى مُعوجَّة تتميَّـز بالخداع في نظر الله وبالجنون في نظر العالم «فَغَيَّرَ عَقْلَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَتَظَاهَرَ بِالْجُنُونِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَخَذَ يُخَرْبِشُ عَلَى مَصَارِيعِ الْبَابِ وَيُسِيلُ رِيقَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ» (ع13).
وفي هذه المناسبة كتب داود مزمور 56 الذي يقول في عنوانه: «على الْحَمَامَةِ الْبَكْمَاءِ بَيْنَ الْغُرَبَاءِ. مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ عِنْدَمَا أَخَذَهُ الْفِلِسْطِينِيُّونَ فِي جَتَّ». لكن الحقيقة أن ضعف إيمانه هو الذي دفعه ليلجأ إلى أعداء إسرائيل، وليس أن الفلسطينيين هم الذين أخذوه. لقد وضع ثقته في الإنسان ونزل إلى أخيش، ثم اكتشف الأخطار المحيطة به هناك.
لقد اجتمع أعداؤه معًا ورصدوا خطواته وهم يطلبون نفسه. لقد تعلَّم أن يتكل على الله تمامًا وليس على حكمته قائلاً: «فِي يَوْمِ خَوْفِي، أَنَا عَلَيْكَ أَتَّكِلُ» ( مز 56: 3 ). كان يعلم أن الله يراقب طرقه حتى وهو تائه، ويرى دموعه ويحفظها ( مز 56: 8 )، وسينقذه. كما نرى ما يُعبِّـر عن الفرح الذي يملأ قلبه إذ يذكر ما سوف يتمتع به عندما يستعيد اتزانه ويسير أمام الله في نور الأحياء. كان يعتبـر نفسه كحمامة وحيدة وسط أعداء كثيـرين يحاولون افتراسه. كان يقارن بين قوة الإنسان الجسدية، وقدرة الله الفائقة. وهكذا استطاع أن يقول: «عَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي الْبَشَرُ؟ ... لأَنَّكَ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ. نَعَمْ، وَرِجْلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ، لِكَيْ أَسِيرَ قُدَّامَ اللهِ فِي نُورِ الأَحْيَاءِ» ( مز 56: 4 ، 13).