ما أبعد الفرق بين فاتحة وحي حبقوق وبين خاتمته، لقد بدأ مذهولاً متحيرًا، ملآنًا بالتساؤلات، وقد استغلق على ذهنه استيعاب ما يراه. ولكنه ينتهي كمَن وجد إجابة لكل أسئلته، بل وجد شبعه في الله نصيبه. ما أعظمها بركة أن ندخل إلى الاختبارات المتنوعة التي اجتاز فيها إنسان هكذا نظير حبقوق، له ذات المشاعر الإنسانية التي لأناس نظيرنا، حتى يملأ الرب وحده المشهد أمامنا، فيُشبع النفس المشتهية، مُفرجًا كل كرّبها، ماحيًا كل شكوكها، مُزيلاً كل الصعوبات أمامها، فيمتلكنا الشعور بما هو نصيب قلوبنا الصالح الذي يبقى عندما نعطي للرب الفرصة أن يأخذ طريقه الخاص معنا في كل الأمور. فالشجر قد لا يُعطي ثمره، والمراعي قد تخلو من قطعانها، والحقول قد تضن بطعامها ( حب 3: 17 )، لكن الله يبقى، وفيه خير جزيل يكفي لسد كل عوز. هو إله الخلاص (ع18)، وفيه شبع القلب، فماذا يعوزني بعده؟
هكذا استطاع حبقوق أن يسير وله هذا الشعور المجيد، وهكذا يُمكننا أيضًا أن نسير بالإيمان على مرتفعاتنا، فوق كل بيئة ملوثة، وأعلى من كل فخ ينصبه العدو. فإن كان واحد من أولاد الله في عهد الظلال استطاع أن يتهلَّل هكذا، وينتصر على ما يحيطه من ظروف، أفلا تأخذنا الغيرة المقدسة ونحن في يوم النعمة، وإن كنا نعبر برية حارقة، لكننا نحيا “في السَّماويات”، فنكون يومًا بعد يوم غالبين بقوة الإيمان؟
والعبارة الأخيرة هي خير الختام، لأن “رَئِيس الْمُغَنِّينَ” الذي له الآلات ذَوَاتِ الأَوْتَارِ، بالنسبة لنا ليس إلا ربنا يسوع، الذي - كمن هو المُقام من الأموات - يقود الآن تسبيحات مفدييه، فعندما تمس أصابعه الرقيقة أوتار القلوب، تتصاعد على الفور من شعبه أنغام الحمد، التي تُسِر آذان الله أبينا ( عب 2: 12 ) .