كانت الوليمة الأولى، التي هيأتها "أَسْتِير"، غرضها تعظيم كبرياء هَامَانُ فقط، وهكذا أرسل فاستحضَر أحبَّاءَهُ وَزَرَشَ زوجته "وَعَدَّدَ لَهُمْ عَظَمَةَ غِنَاهُ وَكَثْرَةَ بَنِيهِ، وَكُلَّ مَا عَظَّمَهُ الْمَلِكُ بِهِ"، ولكن اسمعه في كبريائه يقول: "وَكُلُّ هذَا لاَ يُسَاوِي عِنْدِي شَيْئًا كُلَّمَا أَرَى مُرْدَخَايَ الْيَهُودِيَّ جَالِسًا فِي بَابِ الْمَلِكِ" ( أس 5: 10 -13). هذه دائمًا طبيعة كل ما يُقدّمه الشيطان للناس، لكي يخدعهم، وعندما يمتلك الناس ما يشتهون، مثل هَامَان الذي حقق إشباعًا لكبريائه، فإنها تُصبِح بلا قيمة طالما أن شهواته الأخرى لم تُشبَع. ولذلك ينقاد الخطاة من وراء رغبة شهوانية إلى الأخرى، ومن وهم إلى آخر، حتى يأتي يوم الدينونة.
وبعد أن عُرِفَ أن مُرْدَخَاي هو الرجل الذي يُسَرُّ الملك أن يُكْرِمهُ، بدأت عيون أحباء هَامَان وحكمائه وزوجته تنفتح، فقالوا لهَامَان: "إِذَا كَانَ مُرْدَخَايُ الَّذِي ابْتَدَأْتَ تَسْقُطُ قُدَّامَهُ مِنْ نَسْلِ الْيَهُودِ، فَلاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ، بَلْ تَسْقُطُ قُدَّامَهُ سُقُوطًا" ( أس 6: 13 ). أين رثاؤهم لمَن أتى إليهم "نَائِحًا وَمُغَطَّى الرَّأْسِ" (ع12)؟ لقد قالوا له في الليلة السابقة: "ادْخُلْ مَعَ الْمَلِكِ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَرِحًا" ( أس 5: 14 )، والآن لا يقولون مجرد كلمة مُشجعة لهذا الرجل الشرير، وقت إحباطه الشديد، بل "ابْتَدَأْتَ تَسْقُطُ قُدَّامَهُ ... تَسْقُطُ قُدَّامَهُ سُقُوطًا". لقد أُضيف هذا إلى مرارة تجربته الحزينة والمؤلمة التي عصفت به.
أَ يمكن أن نتوقع شيئًا آخر يصدر عن القلب الطبيعي في أنانيته؟ فطالما لا يمسهم السوء شخصيًا، فما الذي يهمهم؟ وهذا الإنسان الذي طالما أغدق عليهم، لم يَعُد ذا نفع بالنسبة لهم، فلم يُكلِّف أحد منهم نفسه حتى أن يقترح عليه أن يهرب من مصيره التعس! لقد خانه كل مَن كان له، ولم تؤازره مصادر خارجية، ولا مصادر داخلية لإنعاش كبريائه وصلفه. وسواء أراد أو لم يرد، فلا بد أن يواجه مصيره الذي تعيَّن له.